ثم ذكر شطر الإيمان ودليله، وهو حديث: ( الطهور شطر الإيمان )، فإذا كانت الطهارة معنوية فشطر الإيمان التطهر من الشرك والبدعة والضلالة والهوى، ثم بعد ذلك الشطر الآخر هو التوحيد والسنة والطاعة.
وإذا كانت الطهارة بمعنى التطهر الحسي الذي هو رفع الحدث؛ فإن الصلاة لا تصح ولا يقبلها الله تبارك وتعالى إلا بالطهارة، وهي ركن الإيمان العملي اليومي المتكرر، كما قال الله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143].
فأعمال الصلاة نصف، والنصف الآخر هو الطهارة، فلو لم يتطهر لم ينفعه ذلك العمل ولم يقبل منه.
وفي رواية: ( إسباغ الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، والتكبير والتسبيح يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك ) الحديث.
وهذا الحديث الصحيح المعروف قال في آخره صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، فهذه الجملة فيها دلالة عجيبة على حقيقة الإيمان، فكل الناس يغدون، وفي غدوهم يبيعون أنفسهم، ويترتب على ذلك ( فمعتقها أو موبقها ).
والإنسان عامل ولابد، كما قال تعالى: (( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ))[الإسراء:84] أي: على نيته وعلى سبيله وعلى مراده، فكل يوم تطلع فيه الشمس يتحرك فيه الكم الهائل من البشر، يتحركون ليعملوا، فكل الناس يغدو ليعمل، حتى لو نام المرء فنومه عمل من الأعمال، فطبيعة الحياة جعلها الله تبارك وتعالى هكذا، فكل إنسان هو عامل عملاً ما، وهذا العمل موافق لنيته على شاكلته وعلى سبيله وعلى سنته التي يريد ومنهاجه الذي يسير عليه، فإذا كان العبد من أهل الإيمان فعمله يكون وفق إيمانه، فالحركة تكون وفق المعتقد، والذي يحرك الناس للعمل هو ما يقتنعون به وما يعتقدونه، فمن يريد الخير يسعى في الخير، ومن يريد الإثم والشر والبغي والعدوان يسعى فيه.
فمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن تجد أن حركته تكون فيما يقربه إلى الله، ومن أراد الدنيا تجده يسعى لها، كحال أمم الغرب والكفار اليوم كما هو معلوم، يتحركون ويعملون ويجدون كل يوم، لكن الدنيا كل همهم، ففي هذه الحياة الدنيا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام.
وقد قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ))[الانشقاق:6]، فكل إنسان كادح يعمل، لكن نتيجة عمله يلاقيها عند الله، فإن كان الكدح في الخير وفي الطاعة وفي السنة فإنه يجد ذلك ثواباً وأجراً وإكراماً عند الله تبارك وتعالى، وإن كان ضد ذلك فإنه يجد عذاباً وعقوبة وانتقاماً.
فعليك -أيها العبد- أن تخلص وأن تجدد النية وأن تجعل نية الكدح والعمل لله، فإذا غيرت المعتقد تغيرت الحركة، فأصبح هذا العمل في طاعة الله تبارك وتعالى، والفرق بين المؤمن وبين الفاجر هو هذا، فإن المؤمن ليست كل أوقاته عبادة، بمعنى أن المؤمن ليس في كل وقت من أوقاته لا بد له من أن يصلي أو يقرأ القرآن أو يسبح الله تبارك وتعالى، والكافر ليست كل أوقاته معصية وكفراً، لكن الفرق بينهما أن ذاك لما كان إيمانه ومعتقده الحق كانت الحياة تابعة لذلك المعتقد، فالكدح كله في جانب الخير والحق، حتى ولو لم يعمل، كتركه العمل ما بين العمل والعمل، فهذا تابع للعمل، والكافر كذلك كل حياته تعتبر في ذلك العمل الآخر المضاد؛ لأن ذلك يرجع إلى النية وإلى المعتقد.
فهذا الحديث من أعظم الأدلة على حقيقة الإيمان أيضاً، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو) والغدو: هو الذهاب في أول النهار، (فبائع نفسه) فالبعض منا في الدنيا يعمل الشر والموبقات، ويقدم تضحيات كما يقدم المؤمن تضحية للخير، ويسهر ويتعب ويكدح ويخطط وينفق المال ويتألم، كما قال الله تعالى: (( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ))[النساء:104]، هكذا كل الحياة، فالله تعالى جعل سنة الحياة العمل والكدح.
فكل إنسان حارث وهمام وعامل وكادح، و(كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) كعبد مملوك لرجل قال له: اذهب واسع واجتهد لتعتق نفسك، فيذهب ويجتهد كل يوم بما أمره به مولاه وسيده، ويجمع المال حتى يعتق رقبته.
فهذا الحديث من الناحية البيانية اللغوية في أرقى درجات البيان والفصاحة، فصلى الله وسلم على من آتاه الله جوامع الكلم، فهو أفصح من نطق بالضاد بلا ريب، فقد قال: هذه العبارات الحكيمة التي لا يمكن أن يقولها حكيم ولا يمكن أن يقولها مربٍ ولا مزكٍ.